![]() |
| جدار عازل جديد: هل تتحول منطقة دمشق-الجولان إلى "منطقة رمادية" بضمانات دولية؟ تحليل استراتيجي لمستقبل النفوذ. |
جدار عازل جديد: هل تتحول منطقة دمشق-الجولان إلى "منطقة رمادية" بضمانات دولية؟ تحليل استراتيجي لمستقبل النفوذ في الشرق الأوسط.
في خضم التوترات الإقليمية المتصاعدة، برزت شروط صريحة تطالب بإنشاء منطقة عازلة ومنزوعة السلاح تمتد بعمق جغرافي واسع من محيط العاصمة دمشق وصولاً إلى هضبة الجولان. هذا المطلب ليس مجرد إجراء أمني تكتيكي، بل هو محاولة جذرية لإعادة تعريف قواعد الاشتباك وتغيير "الوضع الراهن" (Status Quo) الذي ساد المنطقة لعقود.
إن إنشاء منطقة منزوعة السلاح بهذا العمق يهدف إلى إبعاد القوات الإيرانية والمليشيات الوكيلة، وتشكيل ما يمكن تسميته "المنطقة الرمادية"؛ وهي مساحة لا تخضع لسيادة مطلقة لأي طرف، بل تخضع لضمانات ورقابة دولية أو إقليمية. هذا السيناريو يفتح الباب أمام تداعيات جيوسياسية خطيرة تؤثر على النظام السوري، ودور القوى العظمى، ومستقبل الصراع الإقليمي.
يهدف هذا المقال إلى تحليل الأبعاد الاستراتيجية لهذا المطلب، وتوضيح الأهداف الأمنية والعسكرية الكامنة وراءه، واستكشاف السيناريوهات المحتملة لردود الفعل الدولية والإقليمية على هذا التحول الجذري في خارطة النفوذ.
الأهداف الأمنية: لماذا يُشترط هذا العمق الجغرافي الواسع؟
يتجاوز المطلب بإنشاء منطقة منزوعة السلاح مجرد تأمين الحدود، حيث يركز على تكتيكات عسكرية واستراتيجية متطورة:
1. مواجهة الصواريخ والطائرات المسيرة
الهدف الأساسي من العمق الجغرافي (الذي قد يصل إلى 60 كيلومتراً) هو توفير مسافة "حزام أمني" كافية للتعامل مع التهديدات الحديثة مثل الصواريخ قصيرة المدى والطائرات المسيرة (الدرونز). إن إبعاد نقاط إطلاق هذه التهديدات عن الجولان يمنح القوات المدافعة وقتاً أطول للاعتراض والرد، مما يقلل من مخاطر الهجمات المفاجئة.
2. تفكيك بنية القوات الوكيلة
المطلب موجه بالأساس نحو تفكيك البنية التحتية اللوجستية والعسكرية التي بنتها القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها في محيط دمشق والجنوب السوري. هذه المنطقة العازلة ستجعل من الصعب على هذه القوات نشر الأسلحة الثقيلة أو تأسيس قواعد دائمة قريبة من الحدود.
3. تحييد "التهديد الشامل"
في العقيدة الأمنية، يعتبر هذا المطلب جزءاً من استراتيجية "الردع" القائمة على ضمان أن أي هجوم محتمل من الجبهة الشمالية سيتطلب جهداً لوجستياً وعسكرياً كبيراً، مما يرفع من "سعر" الحرب ويقلل من احتمالية اندلاعها.
التحدي الجيوسياسي: التباينات في موقف القوى العظمى والإقليمية
لا يمكن تنفيذ إنشاء منطقة عازلة بهذا الحجم دون موافقة ضمنية أو صريحة من القوى الكبرى والإقليمية ذات النفوذ في سوريا:
1. موقف روسيا: مفتاح التوازن
تعتبر روسيا اللاعب الرئيسي القادر على الضغط على النظام السوري لقبول شروط معينة. قد ترى روسيا في هذا المطلب فرصة لإعادة تأكيد دورها كـ "ضامن أمني" وحيد في سوريا. السيناريو المحتمل هو أن تدفع روسيا باتجاه "نزع سلاح محدود" مقابل تنازلات سياسية أو اقتصادية.
2. تحدي النظام السوري
يرفض النظام السوري علناً أي تنازل عن سيادته على أراضيه. القبول بمنطقة منزوعة السلاح يعني التخلي عملياً عن السيطرة على مساحات شاسعة، وهو ما قد يقوض شرعية النظام داخلياً. ومع ذلك، قد يُجبر النظام على القبول كأمر واقع في ظل غياب البدائل العسكرية والاعتماد على حلفائه.
3. موقف إيران وحلفائها
بالنسبة لإيران، يمثل هذا المطلب ضربة قاسية لاستراتيجيتها الإقليمية الرامية لإنشاء "جسر بري" ووجود عسكري على الحدود. من المرجح أن ترفض إيران بشكل قاطع، وقد تسعى لتعويض هذا الخسارة الجغرافية بزيادة الضغط في جبهات أخرى.
الآثار بعيدة المدى: تكلفة المنطقة الرمادية على الاستقرار
إنشاء المنطقة العازلة سيخلق تداعيات اقتصادية واجتماعية وإدارية كبيرة:
1. التكلفة الإدارية والرقابة الدولية
تحتاج المنطقة الرمادية إلى آلية رقابة دولية معقدة، ربما تتضمن قوات حفظ سلام أو تكنولوجيا مراقبة متقدمة. هذا يتطلب تمويلاً ضخماً والتزاماً طويل الأمد من الدول الضامنة.
2. نزوح السكان وتأثيره
قد يتسبب إنشاء هذه المنطقة في نزوح سكاني محتمل من المناطق المشمولة، مما يزيد من الأعباء الإنسانية والاقتصادية على المناطق المحيطة بدمشق. كما أن النشاط الاقتصادي في تلك المنطقة سيتأثر بالقيود المفروضة على الحركة والإنشاءات.
3. عرقلة الحل السياسي الشامل
هذه الشروط الأحادية، إذا فُرضت بالقوة، قد تعرقل مسار أي حل سياسي شامل للأزمة السورية، حيث أنها تثبت تقسيم النفوذ وتجعل من الصعب استعادة الدولة السورية لسيادتها الكاملة في المستقبل القريب.
سيناريوهات المستقبل: التفاوض، الرفض، أو الإملاء؟
هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية محتملة لمستقبل المطلب بإنشاء منطقة منزوعة السلاح:
- السيناريو الأول: القبول الجزئي (المرجح): يتم التوصل إلى اتفاق جزئي برعاية روسية، يتم فيه إبعاد القوات الإيرانية لمسافة أقل من المطلب الأصلي (مثلاً 20 كيلومتراً) مقابل ضمانات دولية للنظام السوري بوقف الغارات الجوية.
- السيناريو الثاني: الرفض التام والتصعيد: يرفض النظام السوري وحلفاؤه المطلب بالكامل، مما يؤدي إلى زيادة التصعيد العسكري والعمليات المتقطعة لفرض الأمر الواقع من طرف واحد.
- السيناريو الثالث: التعقيد الدولي (البعيد): يتم إدراج المطلب ضمن مفاوضات أوسع تشمل التبادل الإقليمي للأراضي أو ترتيبات أمنية كبرى، وهذا يتطلب تغييراً في الإدارة الأمريكية والدولية.
الخلاصة: إعادة رسم الحدود الأمنية
إن المطلب بإنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق يمتد من دمشق إلى الجولان هو محاولة لـ إعادة رسم الحدود الأمنية بدلاً من الحدود الجغرافية. هذه المنطقة الرمادية، إن تحققت، ستغير ميزان القوى في المشرق العربي، وتنتقل بالمنطقة من مرحلة الصراع على النفوذ إلى مرحلة إملاء الشروط الأمنية عبر الجغرافيا.
ستظل العاصمة السورية وطريقها إلى الجولان محوراً للتفاوض أو الصراع، وستلعب روسيا ودرجة التزام النظام السوري بالتحالف مع إيران الدور الأبرز في تحديد مصير هذه "المنطقة الرمادية" ومستقبل سيادة دمشق على أراضيها.
المصدر: تحليل استراتيجي وجيوسياسي لمتغيرات النفوذ الإقليمي في الشرق الأوسط 2025.

إرسال تعليق